فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}.
هذا وصف فريق آخر من الذين يقابلون الأمر بالتقوى والإنذار بالساعة مقابلة غير المطمئن بصدق دعوة الإسلام ولا المُعرض عنها إعراضًا تامًّا ولَكِنهم يضعون أنفسهم في معرض الموازنة بين دينهم القديم ودين الإسلام.
فهم يقبلون دعوة الإسلام ويدخلون في عداد متبعيه ويرقبون ما ينتابهم بعد الدخول في الإسلام فإن أصابهم الخيَر عقب ذلك عَلموا أن دينهم القديم ليس بحق وأنّ آلهتهم لا تقدر على شيء لأنها لو قدرت لانتقمت منهم على نبذ عبادتها وظنوا أن الإسلام حق، وإن أصابهم شرّ من شرور الدنيا العارضة في الحياة المسببة عن أسباب عادية سخطوا على الإسلام وانخلعوا عنه.
وتوهموا أن آلهتهم أصابتهم بسوء غضبًا من مفارقتهم عبادتها كما حكى الله عن عَاد إذ قالوا لرسولهم {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54].
فالعبادة في قوله تعالى: {من يعبد الله على حرف} مراد بها عبادة الله وحده بدليل قوله تعالى: {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه} [الحج: 12].
والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس في قوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن وَلدت امرأته غلامًا ونُتجت خيله قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دينُ سُوءٍ.
وفي رواية الحسن: أنها نزلت في المنافقين يعني المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل: عبد الله بن أبي بن سلول، وهذا بعيد لأنّ أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله: {فإن أصابه خير اطمأن به}.
وممن يصلح مثالًا لهذا الفريق العرنيُّون الذين أسلموا وهاجروا فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلحقوا براعي إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلمّا صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذّود وفَروا، فألحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم الطلبَ في أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا.
وفي حديث الموطأ: أن إعرابيًّا أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه وعكٌ بالمدينة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيله بَيعته فأبى أن يقيله، فخرج من المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المدينة كالكير تنفي خبَثها وينصَع طيبها» فجعله خبثًا لأنه لم يكن مؤمنًا ثابتًا.
وذكر الفخر عن مقاتل أن نفرًا من أسد وغَطفان قالوا: نخاف أن لا ينصر الله محمدًا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا فنزل فيهم قوله تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله} [الحج: 15] الآيات.
وعن الضحاك: أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم، منهم: عيينة بن حِصن والأقرع بن حَابِس والعبّاس بن مِرداس قالوا: ندخل في دين محمد فإن أصبْنا خيرًا عرفنا أنه حق، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل.
وهذا كله ناشيء عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الآخروية، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية.
وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا.
ولنعم المعبّر عن ذلك قوله تعالى: {خسر الدنيا والآخرة} إذ لا يهتدي إلى تطلب المسببات من أسبابها.
وحَرف الشيء طَرفه وجَانبه سواء كان مرتفعًا كحرف الجبل والوادي أم كان مستويا كحرف الطريق.
ويطلق الحرف على طرف الجيش ويجمع على طِرَف بوزن عِنب قال في القاموس: ولا نظير له سوى طَللٍ وطِلَل.
وقوله تعالى: {يعبد الله على حرف} تمثيل لحال المتردد في عمله، يريد تجربة عاقبته بحال من يمشي على حرف جَبَل أو حرف وادٍ فهو متهيّىء لأن يزِل عنه إلى أسفله فينقلب، أي ينكَب.
ومعنى اطمأن: استقر وسكن في مكانه. ومصدره الاطمئنان واسم المصدر الطُمَانينة.
وتقدم في قوله تعالى: {ولَكِن ليطمئن قلبي} في [سورة البقرة: 260].
والمعنى: استمر على التوحيد فرحًا بالخير الذي أصابه، واستقرار مثل هذا على الإيمان يصيره مؤمنًا إذا زال عنه التردد. وحال هؤلاء قريب من حال المؤلّفة قلوبهم.
والانقلاب: مطاوع قلبه إذا كبّه، أي ألقاه على عكس ما كان عليه بأن جعل ما كان أعلاه أسفله كما يُقلب القالب بفتح اللام. فالانقلاب مستعمل في حقيقته، والكلام تمثيل.
وتفسيرنا الانقلاب هنا بهذا المعنى هو المناسب لقوله: {على وجهه} أي سقط وانكب عليه، كقول امرئ القيس:
يكب على الأذقان دوح الَكِنهبل

وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا كبّهُ الله على وجهه».
وحرف الاستعلاء ظاهر وهو أيضًا الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف.
ويطلق الانقلاب كثيرًا على الانصراف من الجهة التي أتاها إلى الجهة التي جاء منها، وهو مجاز شائع وبه فسر المفسرون.
ولا يناسب اعتباره هنا لأن مثله يقال فيه: انقلب على عقبيه لا على وجهه، كما قال تعالى: {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143] إذ الرجوع إنما يكون إلى جهة غير جهة الوجه.
والفتنة: اضطراب الحال وقلق البال من حدوث شر لا مدفع له، وهي مقابل الخير.
وجملة {خسر الدنيا والآخرة} بدل اشتمال من جملة {انقلب على وجهه}.
وجملة {ذلك هو الخسران المبين} معترضة بين جملة {انقلب على وجهه} وجملة {يدعو من دون الله} [الحج: 12] التي هي في موضع الحال من ضمير {انقلب} أي أسقط في الشرك.
والخسران: تلف جزء من أصل مال التجارة، فشبه نفع الدنيا ونفع الآخرة بمال التاجر الساعي في توفيره لأن الناس يرغبون تحصيله، وثني على ذلك إثبات الخسران لصاحبه الذي هو من مرادفات مال التجارة المشبه به، فشبه فوات النفع المطلوب بخسارة المال.
وتعليق الخسران بالدنيا والآخرة على حذف مضاف.
والتقدير خسر خير الدنيا وخير الآخرة.
فخسارة الدنيا بسبب ما أصابه فيها من الفتنة، وخسارة الآخرة بسبب عدم الانتفاع بثوابها المرجوّ له.
والمبين: الذي فيه ما يبين للناس أنه خسران بأدنى تأمل.
والمراد أنه خسران شديد لا يخفى.
والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز المسند إليه أتم تمييز لتقرير مدلوله في الأذهان.
وضمير {هو} ضمير فصل، والقصر المستفاد من تعريف المسند قصر ادعائي.
ادعي أن ماهية الخسران المبين انحصرت في خسرانهم، والمقصود من القصر الادعائي تحقيق الخبر ونفي الشك في وقوعه.
وضمير الفصل أكد معنى القصر فأفاد تقوية الخبر المقصور.
{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وما لَا يَنْفَعُهُ}.
جملة {يدعو من دون الله} الخ حال من ضمير {انقلب} [الحج: 11].
وقدم الضر على النفع في قوله: {ما لا يضره} إيماء إلى أنه تملص من الإسلام تجنبًا للضر لتوهمه أن ما لحقه من الضر بسبب الإسلام وبسبب غضب الأصنام عليه، فعاد إلى عبادة الأصنام حاسبًا أنها لا تضره.
وفي هذا الإيماء تهكم به يظهر بتعقيبه بقوله تعالى: {وما لا ينفعه} أي فهو مخطىء في دعائه الأصنام لتزيل عنه الضر فينتفع بفعلها.
والمعنى: أنها لا تفعل ما يجلب ضرًّا ولا ما يجلب نفعًا.
والإشارة في قوله: {ذلك هو الضلال} إلى الدعاء المستفاد من {يدعو}.
والقول في اسم الإشارة وضمير الفصل والقصر مثل ما تقدّم في قوله: {ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11].
والبعيد: المتجاوز الحد المعروف في مدى الضلال، أي هو الضلال الذي لا يماثله ضلال لأنه يعبد ما لا غناء له.
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}.
جملة في موضع حال ثانية، ومضمونها ارتقاء في تضليل عابدي الأصنام.
فبعد أن بيّن لهم أنهم يعبدون ما لا غناء لهم فيه زاد فبين أنهم يعبدون ما فيه ضر.
فموضع الارتقاء هو مضمون جملة {ما لا يضره} [الحج: 12] كأنه قيل: ما لا يضره بل ما ينجر له منه ضرّ.
وذلك أن عبادة الأصنام تضرّه في الدنيا بالتوجه عند الاضطرار إليها فيضيع زمنه في تطلب ما لا يحصل وتضره في الآخرة بالإلقاء في النار.
ولما كان الضر الحاصل من الأصنام ليس ضرًّا ناشئا عن فعلها بل هو ضر ملابس لها أثبت الضر بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذ قال تعالى: {لمن ضره أقرب من نفعه} ولم يقل: لمن يضر ولا ينفع، لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تناف بين قوله: {ما لا يضره} [الحج: 12] وقوله: {لمن ضره أقرب من نفعه}.
وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحّضه للضرّ وانتفاء النفع منه لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلاّ الضر.
واللام في قوله: {لمَن} لام الابتداء، وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة الواقعة بعدها، فلام الابتداء تفيد مفاد إنّ من التأكيد.
وقدمت من تأخير إذ حقها أن تدخل على صلة من الموصولة. والأصل: يدعو من لضَره أقرب من نفعه.
ويجوز أن تعتبر اللام داخلة على من الموصولة ويكون فعل {يدعو} معلقًا عن العمل لدخول لام الابتداء بناء على الحق من عدم اختصاص التعليق بأفعال القلوب.
وجملة {لبئس المولى ولبئس العشير} إنشاء ذم للأصنام التي يدعونها بأنها شر الموالي وشر العشراء لأن شأن المولى جلب النفع لمولاه، وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا تخلف ذلك منهما نادرًا كان مذمة وغضاضة، فأما أن يكون ذلك منه مطردًا فذلك شر الموالي. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وما لَا يَنْفَعُهُ}.
ضمير الفاعل في قوله: {يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ} راجع إلى الكافر المشار إليه في قوله: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران المبين} [الحج: 11] أي يدعو ذلك الكافر المذكور من دون الله، ما لا يضره، إن ترك عبادته، وكفر به، وما لا ينفعه، إن عبده وزعم أنه يشفع له.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الأوثان، لا تضر من كفر بها، ولا تنفع من عبدها بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيقولونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] وقوله تعالى: عن نبيه إبراهيم {قال هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالواْ بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72- 74].
إذ المعنى: أنهم اعترفوا بأنهم لا يسمعون، ولا ينفعون ولا يضرون، ولَكِنهم عبدوهم تقليدًا لآبائهم. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
تنبيه:
فإن قيل: ما وجه الجمع بين نفيه تعالى النفع والضر معًا، عن ذلك المعبود من دون الله في قوله: {مَا لاَ يَضُرُّهُ وما لاَ يَنفَعُهُ} مع إثباتهما في قوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} [الحج: 13].
لأن صيغة التفضيل في قوله: أقرب دلت على أن هناك نفعًا، وضرًّا، ولَكِن الضر أقرب من النفع.
فالجواب: أن للعلماء أجوبة عن ذلك.
منها: ما ذكره الزمخشري: قال: فإن قلت: الضر والنفع منفيان عن الأصنام، مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض.
قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم. وذلك أن الله تعالى سفَّه الكافر، بأنه يعبد جمادًا لا يملك ضرًّا، ولا نفعًا، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله، أنه يستنفع به، حين يستشفع به، ثم قال يوم القيامة: يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} [الحج: 13] وكرر يدعو كأنه قال: يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره، وما لا ينفعه. ثم قال لمن ضره بكونه معبودًا: أقرب من نفعه، بكونه شفيعًا: لبئس المولى، ولبئس العشير. اهـ منه.
ولا يخفى أن جواب الزمخشري هذا غير مقنع، لأن المعبود من دون الله، ليس فيه نفع ألبتة، حتى يقال فيه: إن ضره أقرب من نفعه وقد بين أبو حيان عدم اتجاه جوابه المذكور.
ومنها: ما أجاب به أبو حيان في البحر.
وحاصله: أن الآية الأولى في الذين يعبدون الأصنام، فالأصنام. لا تنفع من عبدها، ولا تضر من كفر بها: ولذا قال فيها: ما لا يضره وما لا ينفعه: والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام، هي التعبير بلفظة ما في قوله: {مَا لاَ يَضُرُّهُ وما لاَ يَنفَعُهُ} لأن لفظة ما تأتي لما لا يعقل، والأصنام لا تعقل.
أما الآية الأخرى فهي فيمن عبد بعض الطغاة المعبودين من دون الله، كفرعون القائل: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38]، {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29]، {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] فإن فرعون ونحوه من الطغاة المعبودين قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم: ولذا قال له القوم الذين كانوا سحرة {أَإِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قال نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ المقربين} [الشعراء: 41- 42] فهذا النفع الدنيوي بالنسبة إلى ما سيلاقونه، من العذاب، والخلود في النار كلا شيء، فضر هذا المعبود بخلود عباده في النار، أقرب من نفعه. بعرض قليل زائل من حطام الدنيا، والقرينة على أن المعبود في هذه الآية الأخيرة: بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء: هي التعبير بمن التي تأتي لمن يعقل في قوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} هذا هو خلاصة جواب أبي حيان وله اتجاه، والله تعالى أعلم.
واعلم أن اللام في {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} [الحج: 13] فيها إشكال معروف. وللعلماء عن ذلك أجوبة.
ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله منها ثلاثة:
أحدها: أن اللام متزحلقة عن محلها الأصلي، وأن ذلك من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القران، والأصل: يدعو لمن ضره أقرب من نفعه، وعلى هذا فمن الموصولة في محل نصب مفعول به ليدعوا، واللام موطئة للقسم، داخلة على المبتدأ، الذي هو وخبره صلة الموصول، وتأكيد المبتدأ في جملة الصلة باللام، وغيرها لا إشكال فيه.
قال ابن جرير وحكي عن العرب سماعًا: منها عندي لما غيره خير منه: أي عندي ما لغيره خير منه، وأعطيتك لما غيره خير منه: أي ما لغيره خير منه.
والثاني: منها: أن قوله: يدعو تأكيد ليدعوا في الآية التي قبلها: وعليه فقوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ} في محل رفع بالابتداء، وجملة {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} صلة الموصول الذي هو من والخبر هو جملة {لَبِئْسَ المولى} الآية. وهذا المعنى كقول العرب: لما فعلت لهو خير لك.
قال ابن جرير: لما ذكر هذا الوجه: واللام الثانية في {لَبِئْسَ المولى} جواب اللام الأولى: قال: وهذا القول على مذهب أهل العربية أصح، والأول إلى مذهب أهل التأويل أقرب. اهـ.
والثالث: منها: أن {مَنْ} في موضع نصب بيدعوا، وأن اللام دخلت على المفعول به، وقد عزا هذا لبعض البصريين مع نقله عمن عزاه إليه أنه شاذ. وأقربها عندي الأول.
وقال القرطبي رحمه الله: ولم ير منه نفعًا أصلًا، ولَكِنه قال: {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} ترفيعًا للكلام: كقوله: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] وباقي الأقوال في اللام المذكورة تركناه لعدم اتجاهه في نظرنا، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: {لَبِئْسَ المولى}.
المولى: هو كل ما انعقد بينك وبينه سبب، يواليك به. والعشير: هو المعاشر، وهو الصاحب والخليل.
والتحقيق: أن المراد بالمولى والعشير المذموم في هذه الآية الكريمة، هو المعبود الذي كانوا يدعونه من دون الله، كما هو الظاهر المتبادر من السياق.
وقوله: {ذلك هُوَ الضلال البعيد} أي البعيد عن الحق والصواب. اهـ.